المحلاوي- منبر الحق وغضب السادات إلى ثورة يناير

المؤلف: سعيد السني11.12.2025
المحلاوي- منبر الحق وغضب السادات إلى ثورة يناير

انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ أحمد المحلاوي، الداعية الأزهري المرموق وإمام وخطيب مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية، يوم الأحد الفائت، بعد عمر مديد حافل بالمواقف والأحداث الجسام، امتد قرابة قرن من الزمان، وبالتحديد 99 عامًا (1925- 2024)، منذ ولادته المباركة في محافظة كفر الشيخ وحتى وفاته بعد أن ابتعد عن الأضواء؛ وأقام في منزله منذ عام 2017، وذلك بسبب متاعب الشيخوخة التي أثرت عليه.

فقهاء السلطان

الشيخ المحلاوي، يمثل نموذجًا للعلاقة المعقدة والمتشابكة بين الحاكم ورجل الدين.. سواء كان عالمًا متبحرًا في الفقه، أو خطيبًا بارعًا وداعية إسلاميًا مؤثرًا.. أو حتى كاهنًا مسيحيًا. هذه العلاقة لطالما كانت محفوفة بالمخاطر والغموض؛ تتأرجح بين الوئام والانسجام كما كان الحال في مصر القديمة، وأوروبا خلال العصور الوسطى، حيث كان الكاهن بمثابة "السند" للحاكم، ساعيًا إلى إقناع الناس بالطاعة المطلقة والانصياع لأوامره ونواهيه، مقابل الحصول على الامتيازات والتقرب من السلطة. ويشبه هذا الوضع حالة التماهي والانصهار التي نراها لدى بعض فقهاء السلطان في عالمنا الإسلامي، الذين يسخرون علمهم وفتاواهم لخدمة الحاكم، وترسيخ سلطته على المحكومين. أو قد تتسم العلاقة بالخلاف الحاد وربما الصدام العنيف؛ مما يؤدي إلى غضب الحاكم على الفقيه، أو الداعية والخطيب، كما حدث في تجربة الشيخ أحمد المحلاوي.

غضب حُكام مصر

للشيخ المحلاوي قصة شيقة ومثيرة للدهشة مع الرئيس الثالث لجمهورية مصر العربية (منذ عام 1952 حتى الآن)، محمد أنور السادات (الذي ولد عام 1918)، والذي خلف الرئيس جمال عبد الناصر، وحكم مصر لمدة 11 عامًا (1970- 1981). انتهت هذه القصة باعتقال الشيخ المحلاوي في فجر يوم 3 سبتمبر/ أيلول عام 1981.. ثم باغتيال السادات نفسه، بعد شهر واحد فقط، يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1981، أثناء العرض العسكري المهيب؛ الذي أقيم احتفالًا بذكرى يوم النصر العظيم على إسرائيل، وهزيمتها النكراء في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973م.

لم تكن قصة المحلاوي، وصراعه مع السادات هي المحنة الوحيدة خلال مسيرته الدعوية الزاخرة بالعطاء، والتي انطلقت من منبر مسجد سيدي جابر السكندري، فقد تعرض للإقصاء والتهميش من منبر مسجد سيدي جابر الذي بدأ فيه كخطيب، وكذلك من مسجده المحبوب (القائد إبراهيم)، الكائن في منطقة محطة الرمل، بقلب مدينة الإسكندرية وعلى شاطئ الكورنيش. المحلاوي كان داعية فصيحًا وخطيبًا جريئًا، لا يخشى في قول الحق لومة لائم، الأمر الذي أثار غضب حكام مصر المتعاقبين في العهد الجمهوري بأكمله.

كيد السادات لليساريين والناصريين

شهدت فترة حكم "السادات"، ازدهارًا ملحوظًا لحركات وجماعات الإسلام السياسي، حيث أطلق لها العنان، ومنحها حرية الحركة والنشاط في المؤسسات التعليمية المختلفة من مدارس وجامعات، ومراكز ثقافية وشبابية. وكانت رعاية السادات لجماعات التيار الإسلامي، بمثابة وسيلة للضغط على اليساريين والناصريين والتنكيل بهم؛ نظرًا لولائهم للرئيس الراحل جمال عبد الناصر (1956- 1970)، وتهميشًا لدورهم.. خاصة بعد أن أشعلوا انتفاضة الخبز الشهيرة (18، و19 يناير/كانون الثاني عام 1977)؛ احتجاجًا على الارتفاع الجنوني في الأسعار. وكان السادات دائمًا ما يتهمهم بالشيوعية، والتبعية لعبد الناصر.

معارضة شرسة لمعاهدة السلام

تألق نجم الشيخ المحلاوي وسطع في عهد "السادات"، فكان في البداية مؤيدًا وداعمًا له في سنوات حكمه الأولى؛ نظرًا لإطلاقه حرية الحركة والدعوة للتيار الإسلامي، وكان يصدر البيانات المؤيدة للسادات عن اتحاد علماء المسلمين بالإسكندرية. ولكن سرعان ما تحول الشيخ المحلاوي إلى معارض شرس لـ "السادات"، وذلك على خلفية زيارته المثيرة للجدل لدولة الاحتلال، وإلقاء خطبته أمام الكنيست الإسرائيلي (20 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1977)، وما تبع ذلك من توقيعه على اتفاقية كامب ديفيد (1978)، ومعاهدة السلام (1979) مع إسرائيل برعاية أمريكية.

المحلاوي، لم يتوان في خطبه ومؤتمراته عن التنديد بـ "معاهدة السلام"، فور توقيع السادات عليها، ووصفها بأنها خيانة للعرب والقضية الفلسطينية العادلة، وأنها تقلل من شأن مصر ودورها القيادي في الأمة العربية. وهذا الموقف الشجاع هو ما أثار حفيظة وغضب السادات تجاه المحلاوي إمام مسجد القائد إبراهيم.

اعتقالات سبتمبر 1981

في فجر يوم 3 سبتمبر/ أيلول عام 1981، قامت قوات الأمن بتنفيذ قرارات، أصدرها الرئيس السادات، تقضي باعتقال ما يقرب من ألف وخمسمائة وستة وثلاثين شخصية من النخبة السياسية والفكرية والثقافية والصحفية وقادة الأحزاب السياسية المعارضين للرئيس، وكان من بينهم الشيخ أحمد المحلاوي. والسبب في ذلك، هو أن السادات كان قد ضاق ذرعًا بالرفض القاطع لمعاهدة السلام مع إسرائيل، والانتقادات اللاذعة التي وجهت إليه بسببها.

في خطاب شهير، وطويل ألقاه قبل اغتياله بشهر واحد فقط (5 سبتمبر/ أيلول).. فقد "السادات" أعصابه؛ وتخلى عن اتزانه، وتجاوز حدود اللياقة، ولم يلتزم بضوابط منصبه الرفيع.. وخصص الداعية المحلاوي (المعتقل)، بحيز كبير من خطابه.. صبّ عليه جام غضبه، واصفًا إياه بأبشع الأوصاف، ومؤكدًا أنه "لن يرحمه أبدًا".

التنديد بعدوان إسرائيل

أُطلق سراح المحلاوي من السجن، بموجب قرارات الإفراج عن معتقلي السادات التي أصدرها الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك (الذي ولد عام 1928)، بعد توليه مقاليد الحكم (من 1981-2011)، ليعود إلى مسجد القائد إبراهيم ويستأنف عمله كإمام وخطيب حتى تم إبعاده عن الخطابة عام 1996. وفي العديد من المناسبات الهامة، مثل التنديد بالعدوان الإسرائيلي الغاشم على الشعب الفلسطيني الأعزل، وخلال فعاليات ثورة 25 يناير المجيدة.. كانت ساحة المسجد تمثل نقطة التجمع والانطلاق، لكل هذه التحركات الجماهيرية الحاشدة. وكذلك الحال، في يوم جمعة الرحيل التاريخي (4 فبراير/ شباط 2011)، عاد الشيخ المحلاوي، وصعد إلى منبر المسجد (القائد إبراهيم)، داعيًا، ومحفزًا للثوار الأبطال، ومطالبًا معهم برحيل مبارك، وهو ما تحقق بالفعل في الجمعة التي تلتها.

حرب فلسطين

يشتهر جامع القائد إبراهيم بمئذنته الشاهقة، وتصميمه المعماري الفريد، وساعته البارزة التي تعلوه، وجاذبيته الكبيرة للمصلين من مختلف أنحاء الإسكندرية وخاصة في شهر رمضان الفضيل، لأداء صلاة التراويح والتهجد. وقد تم تشييد جامع القائد إبراهيم في عام 1948 في عهد الملك فاروق (1936- 1952م).. بالتزامن مع حرب فلسطين، وذلك بهدف تخليد ذكرى القائد إبراهيم باشا، مؤسس الجيش المصري الحديث، ونجل الوالي محمد علي الذي حكم مصر لمدة 43 عامًا (1805- 1848م). الجدير بالذكر أن المسجد تم تصميمه على يد المهندس الإيطالي الشهير ماريو روسي، الذي كان يعمل مهندسًا في وزارة الأوقاف المصرية.

رحم الله الشيخ الجليل أحمد المحلاوي رحمة واسعة، فقد كان شخصية مستقلة، لا ينتمي إلى أي جماعة أو حركة إسلامية بعينها، على الرغم من أنه احتضنهم جميعًا، دون أن يتحزب لأي فصيل منهم. ومن بين أبرز تلامذته الدكتور عبد العزيز الرنتيسي (1947- 2004)، الذي تولى قيادة حركة حماس لمدة أسابيع قليلة خلفًا لمؤسسها الشيخ أحمد ياسين (1936- 2004).

لقد ظلّ المحلاوي وفيًا لمبادئه وقيمه النبيلة، حتى لحظة وفاته.. ولم ينطق إلا بما يمليه عليه ضميره الحي وقناعاته الراسخة، فلم يكن منافقًا أبدًا، ولا متملقًا للسلطة، ولا ساعيًا وراء الشهرة أو المنصب أو التقرب من الحكام.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة